زياد الرحباني، والتوق إلى مستقبل آخر

الكاتب : سليم زاروبي - بروفيسور باحث ومحاضر فلسطيني، متخصص في مجال فيزياء الكون وتاريخ تكوّن الكون، من الناصرة

تابع الملايين عبر شاشات التلفاز لمدة يومين المشهد الحزين وهم يحاولون كبت دموعهم، منهم من نجح بذلك ومنهم من أطلق لها العنان. كان هذا المشهد غريبا على معظمهم من حيث مكان حدوثه ومن ناحية رمزية طقوسه وترتيبها، لكنّهم لم يستطيعوا أن يحيدوا أنظارهم عن مشهد التابوت الخشبي المسجّى في الكنيسة الصغيرة، ولا عن الأم التي تجلس بوقار وهي متّشحة بالسواد، تعاني بصمت فاجعة الفقد القاسية؛ لابن وزميل وصديق ورفيق وموسيقي كبير، زياد رحباني.

زياد الرحباني، والتوق إلى مستقبل آخر

لم نرَ مشهدًا كهذا منذ عقود، تقف فيه الجموع من كل أطياف المجتمع منتظرة دورها لتودع هذا العملاق الذي رحل عنا مبكرا. حيث وحدّ هذا الخليط الذي لا يُصدّق من البشر حبهم لزياد وموسيقاه، ولأمه التي أصبحت أيقونة لا تضاهى.

جلست أشاهد هذه الآلاف وأنا في حالة دهشة وانفعال، ليس فقط حزنا على زياد الذي تربّيت على موسيقاه، وحفظت مسرحياته الساخرة عن ظهر قلب، لكن أيضا لهذا المشهد المذهل من الحزن الجماعي الذي تعدّى الهويّات الطائفية المقيتة التي أصبح الكثير منا يختزل كل كيانه بها. تخيلت زياد ينظر مبتسما من الوراء، ساخرا من نفسه ومن قوله "خليك طبيعي وتلقائي وصريح مع الناس، صدّقني رح تخسرن كلن!"، لأنه أثبت خطأه بموته، فقد كسبهم جميعا.

ب. سليم زاروبي

لكن، لماذا كل هذا الحزن والتعاطف؟ تساءلت مع نفسي عن أسباب هذا المشهد المؤثّر، الذي تعدّى مشاهد الحزن على شخصية فنية، مهما كانت لامعة. هل حَزِنّا بهذا الشكل مثلا عندما فقدنا بليغ حمدي، وهو الموسيقار الكبير الذي انطبعت ألحانه في وجداننا؟ لا أذكر أننا فعلنا ذلك.

إذن ما هو الخاص بزياد، هل هي موسيقاه الخالدة؟ هل هي مسرحياته الرائعة؟ هل هي أسطورة الرحباني التي بقي يمثلها هو وأمه، فيروز؟ هل هو الحنين إلى ماضٍ أجمل؟ هل هي استقامته وصراحته المثيرة للإعجاب في زمن أصبحت فيه هذه القيم عملات نادرة؟ هل هي مواقفه الوطنية اللا متهادنة؟ هل هو رفضه أن يشتريه مال الخليج الملوّث؟

الإجابة بالطبع هي كل هذا. لكني أود هنا أن أقترح النظر إليه وإلى حُزْننا عليه من زاوية أخرى تتعلّق بنا وبتطلعاتنا وطموحاتنا كبنات وأبناء هذا المكان وهذا الزمان.

كان زياد رحباني بالنسبة لي أنا الشخص العادي، لكن المحب للموسيقى والفن، ظاهرةً نادرة في الموسيقى العربية، فقد امتلك صوتا موسيقيا مميزا لا نجد مثله إلا عند أكثر الموسيقيين إبداعا. وعلى الرغم من كونه شخصا قوميا شيوعيا بشكل واضح، إلا أنه لم يكن موسيقيا ملتزما بالمفهوم الضيق، أمثال مارسيل خليفة والشيخ إمام، فقد كانت موسيقاه عابرة للمواضيع والمشاهد الإنسانية، فقد اهتم بالحب، والفرح، والفقر، والموسيقى لأجل الموسيقى، وغيرها، أي أنه كان موسيقار الحالة الإنسانية بكل أشكالها. متّبعا بذلك خطى الكثير من عظماء الموسيقى العربية وعلى رأسهم سيد درويش.

لكنه تعدّى كل هؤلاء من ناحية شمولية مقولته الاجتماعية والسياسية، فقد كان علمانيا بكل جوارحه، ولم يخف موقفه من التعصب الديني، على الرغم من أنه لم يحارب الدين، بل حارب المؤسسة الدينية، بالذات تلك التي تتغذى على الطائفية والتفرقة. أي كان زياد رحباني فريدا جدا في هذا الجانب من العالم العربي، فهو لم يتكلم فقط عن الوطن المسلوب، والقيادات التي باعت شعوبها، والطائفية التي تأكل مجتمعاتنا. ولم يتقوقع في الحديث عن الحب والعشق، والشوق، و"عيون عَليا"، بل كان انتاجه بكل جوانبه (موسيقى، وكلمة، وكوميديا، وسخرية، ومقابلات، إلخ) تعبيرا عن واقع آخر، علمانيا، انسانيا، يعانق تعدّدية مجتمعاتنا ويحتفل بها.

ربما كان جزء من حزننا على زياد رحباني مصدره الحنين إلى ماض معين، لم تأكلنا به الطائفية ولا الهويّات الدينية بعد، بل وحدّتنا هوية قومية طاغية وجامعة. لكننا نعرف أيضا أن هذا الماضي "الجميل" هو الذي أوصلنا إلى الحاضر المأساوي والبشع الذي تعيشه أغلب مجتمعاتنا.

في رأيي المتواضع، عندما نحاول أن نفهم حزننا على زياد، هناك أمران علينا أن نتنبّه لهما. الأول هو أن أحد الأسباب الأساسية لهذا الحزن الجارف ليس الحنين إلى الماضي، لكنه التوق إلى مستقبل آخر، مستقبل علماني، إنساني، لا طائفي، يعانق الحياة ويعيشها لأجل ذاتها، ولأجل الناس التي تعيشها معنا، كل الناس. هذا ما مثله هذا المتمرد الجميل، فقد مثل مستقبلا مغايرا، جديدا، مختلفا، تحقق فيه الناس طاقتها وأنفسها، ولا تخاف أن تقول رأيها حتى عندما يتعلق الأمر بأكثر المواضيع الممنوعة، الأديان والطوائف. نعم نتوق لهذه الجرأة، وهذه الاستقامة، وهذه الشجاعة، وهذه النزاهة التي رفضت أن تتلوث. وبالأساس نتوق للعيش في مجتمع يحب نفسه بكل أطيافه وأفراده.

الأمر الثاني الذي علينا أن نتنبّه إليه، أن الذين يتوقون لهذا المستقبل في مجتمعاتنا كثيرون جدا، فهذه مفاهيم معظم الذين حزنوا على زياد هذا الحزن العميق. هناك شريحة كبيرة جدا من مجتمعاتنا إمّا علمانية بشكل واضح أو أنها تتوق للعلمانية ما زالت لم توضح لنفسها بالضبط ما هي. هذه الشريحة الكبيرة التي لا يمثّلها أحد تقريبا في العالم العربي، لا القيادات السياسية الفاسدة، أو الأحزاب السياسية ذات الفكر الديني الإقصائي، حتى تلك منها التي تعادي الغرب ومشاريعه المجرمة في المنطقة. هؤلاء لا يمثلون هذه الشريحة، التي آن لها الأوان أن تقف وتعلن وجودها بكل جرأة ووضوح، كما فعل زياد طوال حياته من غير أن يتعب أو يكلّ.

أعود في النهاية إلى مشهد الجنازة الذي يرفض أن يفارقني. نعم كانت لحظة حزن كبير، لكنها كانت لحظة راقية، اجتمعت به كل روافد المجتمع اللبناني خاصة، والعربي عامة، حول جثمان شخص عزيز، أحببناه من غير أسئلة. أظهرت لحظة فراقه جمال تعدديتنا وإنسانيتنا، مثّله نهر المودعين على أطيافهم. نحن أبناء هذا الشرق، مهد الحضارات والثقافات، الذين نحمل على أكتافنا، من غير أن ندري، تاريخا طويلا وعريقا، يمتد وجودنا فيه إلى ما قبل الزمن وما قبل الأديان. أورثنا هذا التاريخ مجتمعات وعادات وأديان ولهجات وطوائف.

تاريخ رائع أهدانا تعددية بديعة التركيب، رهيبة المعاني، غنية الوجود والتعبير ... فلماذا نريد هدمها؟