في أربعينية زياد الرحباني... نصغي إليك كلّ يوم مثل الصلاة
الكاتب : هديل علي رعد – كاتبة من لبنان
وُلِد زياد الرحباني عام 1956 (1/1)، تاريخ معتاد لغالبية شعوب الأرض الذين سُجّلوا في اليوم الأوّل من السنة الجديدة. لم يتكلّم يوماً عن صحته أو نفيها. وُلد لِأبٍ وأمٍّ في مجال الفنّ والمسرح، وكانا قد بنيا اسماً لبلادهما. لا أدري حقّاً إن كان الطفل زياد يُحسَد على حيازته لكلّ هذا المجد المبكّر، أم يحزن على كل ما أُلقي على عاتقه من مسؤولية أكبر منه.

والده لم يكن مهتمّاً بمراحله الدراسية، ولم يكن مطّلعاً على مراحل تقدّم ابنه في المدرسة. لكنه كان ينوط له ألحاناً يتلفّظها على مسامع عاصي، فيسأله: من أين أتيت بها؟ سارقها؟ فيجيبه الطفل: كلا، أنا اخترعتها. حينها يأخذ المصروف ويُقال له: برافو عليك!
لم يعرف زياد يوماً أكان تلميذ مدرسة الجمهور أم يشبه طفل الشارع الذي كان يلقاه أثناء ذهابه إلى المدرسة صباحاً. كانت مرحلة السفر التي لا بدّ له أن يقطعها يوميّاً مع سائق العائلة من منزله في قضاء المتن إلى بدارو ليستقلّ باص المدرسة، مليئة بالمشاهد.
طفل مبلّل من ماء الشتاء يطلب المال منه، والساعة لم تتجاوز السابعة صباحاً. مشهد بقي في ذاكرته طويلاً، وربما هنا بدأت أسئلته الوجودية.
الفقر و «المصاري لا قشطت لحالها عهيدا نتفة وهيدا كتير...» موضوعان بارزان في حياته. ألّف كتاباً وهو في الثانية عشرة من عمره بعنوان «صديقي الله» يبرز أفكار بالغ في سنّ مبكرة. وهنا مقطع البداية الذي يظهر فيه إيمان حقيقي، وربما – في مفهومي الخاص للأمور – إيمان زياد هو ما كان يسبق عصره:
«وقالوا يوماً: إن اللّٰه صديقي. ورحت أفتش عن صديقي في الأحراج، بين الزهور،
في الأشجار المورقة، وراء الصخور.
وخافت مني العصافير وهربت.
ترى صديقي كالعصافير خاف مني وهرب؟
وسألتهم: صديقي هل يخاف؟
قالوا: يخاف ألّا تحبّه.
وقلت: أين هو؟
وقالوا: في كل مكان.
وكان المساء فسألتهم: كيف تُظلِم الدنيا وصديقي ما زال يلعب في الأحراج ولم يرجع إلى بيته؟
فقالوا: ليس له بيت. كل البيوت بيوته ولا يسكنها، كل الأعشاش أعشاشه ولا يسكنها.
وسألت: أين يسكن؟
فقالوا: يسكن النفس.
وعرفت أن صديقي وردة لا تُطال، أعلى الورود وأجملها».
أمّا فيروز، الأم الحزينة، فقد سألته يوماً عن جمال فستانها، فأجابها بأنه جميل. عاودت لاحقاً لتسأله في يوم آخر عن رأيه في فستان آخر، فأجابها إنه جميل. فقالت فيروز: «هل هذا خجل؟» ليجيبها: «ما دام كلّ فستان هناك فتاة تريد أن ترتديه، إذاً كل الفساتين جميلة».
وقد تابع بسؤالها عن مدى أهمية سفره كل يوم عنهم، حيث يغمض عينيه مرّات عدة لكي يراهم، ولا يراهم إلّا في المساء. «لماذا أذهب، مع أنك لا تحبّين أن أبتعد عنك، وأنا لا أحبّ أن أبتعد عنكم؟» قالت: «لا أدري».
قد يلوح لك أنه الموسيقار والمؤلف والكاتب والمسرحي والصحافي. إنه من توقّع المستقبل المؤلم لبلدك وبلدي، أو أنه من جعل فيروز تغني «كيفك إنت» من كلماته وألحانه، حين تخطّت صورتها النمطية للعاشقة ذات الحبّ العذري التي تنتظر حبيبها في الشرفات لتغني له بعد أن «صار عنده ولاد».
هو أيضاً الحكم الذي يقف في المشكلات العائلية ويكون مستعدّاً دائماً لحمل الشنطة ويغادر المنزل مع والده في الليل، أو الطائش المتمرّد الذي غادر منزل والده في عمر الـ16 ليقدّم أول عمل مسرحي يشبه أعمال والديه وعمّه منصور في «سهريّة» عام 1973، وكان عمره 17 عاماً.
وفي مرض عاصي الرحباني، أدّت فيروز «سألوني الناس» من ألحان زياد. لم يستقبل عاصي حينها الخبر برحابة صدر بعد خروجه من المشفى، وقال: «لقد استغللتم مرضي». كان يرفض الشفقة.
وقد يخال لك أنه العاشق «بلا ولا شي»، لكنه أكثر من كل ما سبق بكثير. طفل لا يموت.
في أربعينية زياد نقول: ليس صحيحاً ما ظننته أنه لم يسمعك أحد يوماً. نصغي إليك كلّ يوم مثل الصلاة. شكراً للصديق، عندي ثقة كبيرة فيك!