الهيكل الجديد
الكاتب : المطران كيرلُّس سليم بسترس
يسوع هو نفسه الحمل الفصحيّ الذي حلّ محلّ الحمل الفصحيّ الذي كان يُقدَّم كلّ سنةٍ في الهيكل. فالذبائح التي كان يفرضها العهد القديم كانت وسائل بشريّة يلجأ إليها الناس ليكفّروا عن خطاياهم.

كان الهيكل في العهد القديم يمثّل محورَ حياة الشعب. وكانت تُقدَّم فيه ذبائح لمغفرة الخطايا والتقديس، أعني لتحقيق الاتّحاد بين الله والشعب. جاء يسوع ابن الله، الذي يجمع في شخصه الله والإنسان، وقدّم ذاته ذبيحةً على الصليب، تتميمًا لمشيئة الله، كما تبيّن في نزاعه في بستان الزيتون، حيث نقرأ: "سقط يسوع على ركبتَيْه يُصلِّي قائلاً: يا أبتاه، إن شئتَ أن تصرفَ عنّي هذه الكأس. ولكن لا تكن مشيئتي بل مشيئتكَ" (لوقا 42:22). إنّ يسوع في كلّ حياته لم يعملْ إلاّ بمشيئة الآب، كما قال لتلاميذه في مشهد المرأة السامريّة: "إنّ طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأن أتمِّم عمله" (يوحنّا 34:4). ويؤكّد ذلك في صلاته الكهنوتيّة في أثناء العشاء السرّيّ: "يا أبتِ،..أنا قد مجَّدتُكَ على الأرض وأتممتُ العملَ الذي أعطيتَني لأعملَه" (يوحنّا 4:17). فأصبح جسده الهيكل الجديد الذي فيه تمّ تقديس العالَم. هذا ما أشار إليه بعد أن طرد الباعةَ من الهيكل، إذ قال له اليهود: "أيّ آيةٍ تُرينا حتى تفعل هذا؟" أجابهم: "انقضوا هذا الهيكل وأنا في ثلاثة أيّامٍ أُقيمه". فقال له اليهود: "لقد اقتضى ستٌّ وأربعون سنة لبناء هذا الهيكل، أفتُقيمه أنتَ في ثلاثة أيّام؟" وأمّا هو فكان يعني هيكلَ جسده. ولمّا قام من الأموات تذكّر تلاميذه أنّه قال هذا فآمنوا بالكتاب وبالكلام الذي قاله يسوع" (يوحنّا 18:2-22).
يسوع هو نفسه الحمل الفصحيّ الذي حلّ محلّ الحمل الفصحيّ الذي كان يُقدَّم كلّ سنةٍ في الهيكل. فالذبائح التي كان يفرضها العهد القديم كانت وسائل بشريّة يلجأ إليها الناس ليكفّروا عن خطاياهم. لكن، كما تقول الرسالة إلى العبرانيّين، "من المُحال أنّ دم ثيرانٍ وتيوسٍ يُزيل الخطايا". ثمّ تُضيف: "فلذلك يقول المسيح عند دخوله العالَم: "ذبيحةً وقربانًا لم تَشَأْ، غير أنّكَ هيأتَ لي جسدًا. لم ترتضِ محرَقاتٍ ولا ذبائح خطيئة، حينئذٍ قلتُ: ها أنا ذا آتي - إذ قد كُتِب عنّي في دَرْج الكتاب - لأعملَ، يا الله، بمشيئتكَ... فهو إذن يُبطِل النظام الأوّل ليُقيمَ الثاني. وبقوّة هذه المشيئة قُدِّسنا نحن بتقدمة جسد يسوع مرّةً لا غير" (عبرانيّين 4:10-10).
كانت الغاية من ذبائح الحيوانات "جعل المقتربين إلى الله كاملين" (عبرانيّين 1:10). الكمال المقصود هنا هو تنقية الضمير ومغفرة الخطايا التي هي شرط الاتّحاد بالله. غير أنّ تلك الذبائح لم تكن سوى ظلّ الذبيحة الكاملة التي قرّبها يسوع بتقدمة جسده تتميمًا لمشيئة الله. إنّ ما لم تستطعْ أن تقوم به ذبائح العهد القديم، أعني التكفير عن خطايا البشر، وما لا يستطيع الناس أن يقوموا بأعمالهم البشريّة، أعني التبرير والقداسة، قام بهما يسوع بتقدمة ذاته على الصليب. إنّ الناس، بسبب وضعهم المائت ومحدوديّتهم، عاجزون عن أن يعبدوا الله العبادة الحقيقيّة. لذلك صار ابن الله إنسانًا وحمل البشريّة كلّها في شخصه، وبطاعته لله الآب وبذل ذاته حتى الموت، موت الصليب، أزال عصيانَ البشر ومحا خطيئتهم، وهكذا قدّم لله الآب ذاتَه والبشر أجمعين ذبيحةً كاملة. بذلك هو "حمل الله الذي يرفع خطايا العالَم" (يوحنّا 29:1). يقول البابا بندكتُس السادس عشر: "يسوع نفسُه هو حضور الله الحيّ. في شخصه يتلامس الله والإنسان، الله والعالَم. وفيه يتحقّق ما كان طقس التكفير في العهد القديم يريد التعبيرَ عنه: إنّ يسوع، ببذل ذاته على الصليب، يضع، على نحوٍ ما، كلّ خطايا العالَم في محبّته لله ويُذيبُها فيه. فالاقتراب من الصليب، والدخول في شركةٍ مع المسيح، يعني الدخولَ في مجال التحوُّل والتكفير".
كان العهد القديم يطلب من الإنسان أن يُقدِّم ذبائح حيوانات تكفيرًا عن خطاياه. فبعد أن قدّم يسوع ذاته ذبيحةً على الصليب، لم يعُدْ من الجائز تقديم ذبائح حيوانات، بل تحوّل تقديم ذبائح الحيوانات إلى تقديم الذات ذبيحةً بالاتّحاد مع ذبيحة المسيح. وهذا يعنى إماتة الذات الأنانيّة والتخلّي عن الإرادة الشخصيّة المنحرفة، واتّباع مشيئة الله وتتميم كلّ ما تتضمّنه تلك المشيئة من أعمال برٍّ وقداسة. هذا ما يوصي به بولس الرسول: "فأحرِّضكم، إذن، أيّها الإخوة، بمراحم الله، أن تُقرِّبوا أجسادكم ذبيحةً حيّة، مقدَّسة، مرضيّةً لله؛ تلك هي العبادة التي يقتضيها العقل منكم" (رومة 1:12-2).