الدكتور عامر جرايسي في لقاء مع "القيامة" يدعو لبناء قيادة تربوية للمجتمع العربي لوضع خطة لمواجهة العنف والإجرام

يرى المعالج النفسي والمرافق للكثير من المدارس، الدكتور عامر جرايسي في حديث خاص مع موقع "القيامة" وصحيفة "الصنارة"، أجراه معه محرر الموقع والمحرر في الصحيفة، الكاتب زياد شليوط بأن "ظاهرة العنف في المدارس ليست أمرا طارئا، بل إن العنف كان موجودا في المدرسة من وقت طويل، لكن الجديد في التوجهات الجديدة لها. فالعنف اليوم يمارس من قبل طلاب تجاه المعلمين وأهال تجاه المعلمين. في السابق لم يكن يحصل عنف بالحجم الكبير وبهدف المس بسلطة المعلم، بينما اليوم انتقلت مجموعات الاجرام الى المدارس".

الدكتور عامر جرايسي في لقاء مع "القيامة" يدعو لبناء قيادة تربوية للمجتمع العربي لوضع خطة لمواجهة العنف والإجرام

القيامة: هل تفاجأت مما يحصل في مدارسنا من أعمال عنف واعتداءات متبادلة بين مجموعات طلابية، كمتابع ومرافق لها منذ عدة سنوات؟ د. د. جرايسي: "باعتقادي أن أي انسان مهني يراقب التطورات والتغييرات التي تحصل عليه ألا يفاجأ مما وصلنا إليه، فقد سبق وانتبهت إلى ذلك منذ أكثر من عشر سنين، لأن المناخ الدراسي تخلخل في مجتمعنا وخاصة في المدارس الثانوية والاعدادية بشكل خاص، وأحاديث الطلاب ومفاهيمهم تغيرت وباتت مستقاة من عالم الاجرام، فدخلت مصطلحات جديدة يتناقلونها منها ما هو مأخوذ من حوارات السجناء، بل أن البعض بات يحضر الى المدرسة وبحوزته سلاحا ويقومون بالاعتداء على المعلمين، وكل ذلك هو انعكاس لما يجري في مجتمعنا".

القيامة: هل يمكن اعتبار هذا التغيير في مدارسنا ظاهرة، وهل هي مهيأة لمواجهتها؟

د. جرايسي: لقد كانت مسألة وقت حتى يمارس الطلاب العنف داخل المدارس، وجاء ذلك مع أزمة تغير القيم والتوجه العنيف في التفكير، لقد تخلخلت القيم في نفوس الطلاب. هي بداية ظاهرة وعلينا ألا نستغرب اذا تحولت الى ظاهرة.

القيامة: كيف وصلت مدارسنا إلى هذا الوضع المقلق؟

د. جرايسي: معظم المدارس لا تملك خطة منهجية في كيفية التعاطي مع المشاكل السلوكية فيها وعند طلابها. بات المعلم فاقدا للسلطة التربوية، ولا يملك أدوات وأساليب للتعاطي مع تلك المشاكل، وصار يبث ضعفا واضحا بعدما فقد موقعه كمؤثر ورادع. هذا كله لم يحصل فجأة بل نتيجة تراكم على مدار سنوات، فالطلاب يشهدون اليوم عجز إدارة المدرسة في ظل غياب منظومة ردع، وكانت مسألة وقت حتى وجد الطلاب أنفسهم فراعنة، عملا بمقولة "مين فرعنك يا فرعون؟!

لقد حصلت قضايا ومشاكل كثيرة على مدار السنوات الماضية وخلال فترة طويلة، لم يحدث خلالها تدخل جدي من قبل الادارة، لذا اكتشف الطلاب عجز الادارة وغياب الرادع فانطلقوا في سلوكهم السلبي. اذن نعود لتحديد لب المشكلة في سببين: الأول ثقافة المجتمع غزت المدارس وسيطرت عليها، والثاني أن المدارس تفتقد لمنهجية برامج علاجية وقائية.

القيامة: من يمكنه وضع برامج وقائية ومن هي الأطراف المخولة بذلك؟

د. جرايسي: تقع المسؤولية على عدة أطراف من أصحاب القرار من واجبها التعامل مع المشكلة والعمل على وضع برامج ومقترحات وهي: أقسام المعارف في السلطات المحلية، مدير وادارة المدرسة، مفتشو المدارس كممثلين لوزارة التربية والتعليم، بينما المعلم يبقى برغيا صغيرا في تلك المنظومة.

القيامة: ألا ترى الدور السلبي لوسائل الاتصال الألكترونية أيضا؟

د. جرايسي: تلعب وسائل الاتصال بتغذية المفاهيم الضيقة غير التربوية وتوفر الانكشاف على الحوادث الاجرامية من خلال الأخبار والصور ونشر المفاهيم الثقافية العنيفة التي تغذي الجمهور بشكل مستمر بالمصطلحات الاجرام وتعمل على هندسة الشارع العربي الغارق بالعجز أمام الاجرام. وهذا يفوق دورها في حالات التنمر بين الطلاب وايجاد التحزبات، فالتأثير الأكبر يتجلى في نقل الثقافات الخارجية في عدة أماكن في مجتمعنا، فالطالب يتغذى بهذه العقلية والتي يظننها أمرا طبيعيا، ويترجمها من خلال السلوك والنهج اليومي.

القيامة: كيف يمكن للمدارس الاستفاقة والتصدي لاختراقها العنيف قبل فوات الأوان؟

د. جرايسي: عملية قتل الحارس في كفرياسيف تنضم الى مجموعة أحداث عنيفة وقعت في محيط المدارس وداخلها طالت حتى المعلمين والمديرين، فيها تجاوز للخطوط الحمر، وشاهدنا عمليات اقتحام اجرامية للمدارس وممارسة الاعتداء والقتل داخلها، كما شاهدنا قتل أشخاص يخرجون من المسجد أو داخله وكذلك رجال دين دون أي رادع. لقد سقطت حرمات دور العبادة كما سقطت حرمات البيوت واليوم حرمات المدارس، وسقطت حرمات الأجيال والجنس والنوع، وبتنا شاهدين على اعتداءات حتى على معلمات داخل المدارس. ووقعت جرائم على صعيد العائلة منها قتل أم أو أب على يد الأبناء في أكثر من مكان، وحصل تصاعد في الانفلات أمام تصاعد في انعدام الردع والعجز، واذا لم تسارع المدارس الى وضع برامج وقائية ورادعة فان الأمور ستتفاقم وتتصاعد بشكل أكبر وأخطر، خاصة واني لا أرى جدية في هذا الجانب من قبل المسؤولين. من هنا كل مدير عليه أن يستفيق ويعمل على وضع خطة ردع طويلة الأمد لخلق مناخ آمن في المدرسة.

القيامة: من المعروف أن صاحب الدور الأساس في العمل التربوية هم الأهل، فهل بمقدورهم اليوم ممارسة دورهم الطبيعي في تقويم أولادهم وتربيتهم على القيم؟

د. جرايسي: يقف الأهل اليوم في حالة عجز في ممارسة دورهم التربوي، ولهذا نراهم يلجأون إلى تفريغ عجزهم على المعلمين، بتوجيه الاتهامات لهم بدل توجيه اللوم لأبنائهم. وبالمقابل يقوم المعلمون بتوجيه الاتهام للأهل، مما يخلق حالة من المواجهة بينهما بدل التعاون المطلوب والشراكة الحقيقية، التي يجب أن تسود بين الأهل والطاقم التعليمي. فالأهل يجب ألا يبقوا في حالة عجز عن متابعة سلوكيات أبنائهم، مثل البقاء خارج البيت لساعات متأخرة من الليل، قيادة سيارة بدون رخصة، تعاطي مواد سامة وغيرها، فالأهل في العائلات العربية اليوم اما عاجزون أو يفتقدون للوعي لدورهم الوالدي، لذا عليهم طلب المساعدة دون خجل في كيفية استعادة التأثير الوالدي. الخلل الكبير يقع في أن معظم الأهالي ليس لديهم آليات ومفاهيم لوضع حدود لأولادهم.

ويوجه الدكتور عامر جرايسي رسالة أخيرة في هذا الحوار قائلا: "ينقص مجتمعنا العربي قيادة تربوية اجتماعية، يتوجب عليها وضع خطة ممنهجة في موضوع العنف في الأسرة والمدرسة والشارع. علينا وضع خطة للتحديات في دعم سلطة الأهل والمعلمين وهذا التوجه المطلوب والحل لهذه الظاهرة."