أيقونات "مدرسة" القدس الفنية جمعت بين العالم والماوراء
الكاتب : مهى سلطان – الاندبندنت العربية
معرض تذكاري يبدأ من القرن الـ17 وكتاب مرجعي لمحمود الزيباوي ملخص أيقونات من القدس حلت في بيروت في "دار النمر" (كليمنصو)، عبر مجموعتها الفريدة التي تشكل معرضاً تذكارياً تاريخياً، نسقه ووثقه الباحث والفنان محمود زيباوي، مرفقاً بكتاب فني يجمع بين دفتيه مقدمة تاريخية وشروحاً مرجعية. ويدعو المعرض هواة الفن الأيقوني المقدس والمهتمين إلى اكتشاف الخصائص الجمالية والأبعاد الروحية لما يعرف بـ"مدرسة القدس" في فن تصوير الأيقونات.
شهد هذا الفن الأيقوني نهضة كبيرة في بلاد الشام، ظهرت معالمها خلال القرن الـ17، ووصلت إلى عصرها الذهبي في القرن الـ18، واستمرت طوال القرن الـ19، فبرزت مدرسة جديدة مركزها مدينة القدس، "المدينة التي جمعت الدنيا والآخرة وحملت بعضاً من صفة الجنة"، كما أشار البشاري المقدسي.
خلال الحقبة الأخيرة من العهد العثماني، كانت فلسطين موئلاً لحركة فنية عامرة تمثلت في نتاج فني متنوع، بعدما جذبت الأراضي المقدسة كثيراً من مصوري الأيقونات اليونانيين والروس، وسار على خطى هؤلاء رسامون محليون وقعوا أعمالهم بأسمائهم الصغرى مرفقة بكنية القدسي أو الأورشليمي، وفقاً للتقليد الشائع في ذلك الزمن. (أبرزهم ميخائيل مهنا القدسي وحنا صليبا القدسي وإسحق نقولا الأورشليمي). وعرف هذا النتاج القدسي شيوعاً كبيراً في سائر بلاد الشام وبلغ مصر، كما يستدل من الكم الهائل من هذه الأيقونات الحاضر في كنائس هذه البلاد إلى يومنا هذا.
وإضافة إلى الأيقونات خرجت من القدس لوحات تذكارية منجزة على القماش تميزت بحجمها الكبير وبطابعها الطوبوغرافي. وجمعت هذه الخرائط الطوبوغرافية أشهر المواقع المقدسة حول صورة مختزلة لكنيسة القيامة التي تعد "سرة الأرض". وأعدت هذه الخرائط لمصلحة الحجاج الذين حملوها معهم، كما حملوا تذكارات صغيرة، من بينها أيقونات منمنمة أبدعتها أنامل الفنانين المقدسيين، وهي بمثابة تحف رسمت بألوان التامبرا على الهياكل العظمية والأصداف المستخرجة من نهر الأردن حيث اعتمد المسيح.
يجمع المعرض الذي حمل عنوان "كما في السماء كذلك على الأرض"، للمرة الأولى عدداً كبيراً من الخرائط التذكارية ذات الأحجام الكبيرة وسلسلة من الأيقونات القدسية، إضافة إلى بعض الأيقونات المنمنمة والصور الفوتوغرافية واللوحات الزيتية والأعمال الطباعية التي تجسد أشهر المواقع المقدسة ومناظر الأمكنة والأحياء القديمة التي تعود غالبيتها لرسامين ومصورين استشراقيين (من بينهم ديفيد روبرتس وبونفيس وهيرمان كورودي...). وتعود بنا هذه الأعمال لزمن لم تقتصر فيه مركزية الأراضي المقدسة على مكانتها الروحية التي استقطبت المؤمنين من الديانات الثلاث، بل كانت مركزاً لحركة فنية أصيلة اتخذت القدس مركزاً، فضلاً عن دورها كعاصمة للسياحة الدينية، إذ إن كثيراً من آباء وأجداد الفنانين الفلسطينيين عمل في صناعة الأيقونات، إضافة إلى عمارة الكنائس وترميمها وتزيينها.
مميزات مدرسة القدس

أيقونة مقدسية في المعرض (دار النمر)
أنتج المصورون المقدسيون أيقونات أنجزت خصيصاً لتجد موقعها على الـ"أيقونسطاس" (حامل الأيقونات وهو الجدار الذي يحجب الهيكل ويفصل بينه والكنيسة وله ثلاثة أبواب) في الكنائس، كما أنتجوا أيقونات مفردة كي توضع داخل المنازل، والأرجح أن بعضاً من نتاجهم كان للحجاج الذين سعوا إلى اقتناء الأيقونات كتذكار يحملونه معهم إلى ديارهم. واتبع هؤلاء المصورون أسلوباً جامعاً في التصوير والتزيين، ويمكن القول إن هذا الأسلوب المحلي لا ينفصل عن الأسلوب الشعبي الذي برز في الشرق المسيحي خلال هذه المرحلة، غير أنه يتميز بخط مغاير للمدرسة الكلاسيكية سواءً البيزنطية أو اليونانية أو أسلوب المدرسة الحلبية.
فقد سادت في مجمل أيقونات مدرسة القدس القامات القصيرة والوجوه المدورة وغلب الطابع الفطري على الدقة الحرفية العالية في التنميق والتذهيب. هكذا خرجت وجوه القديسين عن النسق النسكي التقليدي الذي التزمه الفن البيزنطي على مر العصور، وتميزت بنفحة طفولية فرحة ميزت هذا النتاج. كما أن المساحة الخلفية خلت من أي تزويق، وزيّنت بإطار بسيط، فاقتصر النقش على سلسلة من النجوم تملأ الهالة المحيطة برؤوس القديسين، وباتت الحلة الزخرفية بضع شتول نباتية مزهرة تزين بعض عناصر التأليف. واعتمدت الأبجدية اليونانية في كتابة عنوان الأيقونة، وجاءت الكلمات الأخرى كلها بالعريية في غالبية الأحيان.
يختزل نتاج مدرسة القدس آخر تحولات فن الأيقونة مع نهاية الحقبة العثمانية في زمن دخول ما يعرف بلوحة الحامل إلى الشرق. وتغيب الأسس المتينة عن نتاج هذه المدرسة من جهة، ويحل مكانها أسلوب فطري وشعبي يبقى بعيداً من رصانة الأيقونة الكلاسيكية في إشراقاتها وتجلياتها.
الأيقونات المفردة والخرائط الطوبوغرافية

كتاب أيقوني من المعرض (دار النمر)
خلال القرون الوسطى أنجز عدد كبير من الخرائط الخاصة بالأراضي المقدسة، واختلفت هذه الخرائط بأساليبها، غير أنها اعتمدت كلها تلك الرؤية الدينية التي تصور المدينة المقدسة في وسط الأرض، وتجعل منها مركزاً للعالم. وعلى مر الزمن خربت القدس ودمرت معالمها مراراً، غير أن صورتها لم تتبدل فبقيت "المدينة التي يقولون إنها كمال الجمال وبهجة كل الأرض (مراثي أرميا 2:15)"، أقدمها يعود للقرن الـ13. وفي الحقبة العثمانية المتأخرة، شهدت القدس نشوء نوع جديد من الخرائط التذكارية، وجاءت على شكل لوحات ذات أحجام جدارية تتميز بغزارة تفاصيلها وتجمع بين سلسلة متنوعة من المشاهد الأيقونية، وهي من نتاجات محترفات عدة كما تشهد الأساليب المتبعة في صياغتها. وتحتل كنيسة القيامة وسط التأليف وتحضر في صورة تجمع بين داخلها وخارجها وفقاً للتقليد البيزنطي. وتلتف حول هذه الصورة المركزية مجموعة من المشاهد تتغير في ترتيبها وفي مواضيعها بين لوحة وأخرى. وفي غالبية الأحيان يحل مشهد الدينونة فوق المدينة العظمى، وفي القسم الأعلى من المشهد يحضر المسيح الديان على عرشه، وعن يمينه الأبرار وعن يساره الخطأة وأصحاب النار.
وتجمع الصور التي تتوزع على مسافة اللوحة بين أحداث مختارة من العهد القديم واخرى من العهد الجديد، إضافة إلى صور عدد كبير من من القديسين، وترتبط غالبية هذه الصور ارتباطاً مباشراً بأمكنة جغرافية من الأراضي المقدسة. ومن أروع النماذج الموجودة في المعرض لوحة يونانية منجزة على القماش تمثل "مدينة أورشليم المقدسة ونواحيها" كما تشير الأحرف الباقية من عنوانها، تقدم مشهدية تاريخية ساحرة بنمنماتها وأحداثها ومواقعها الجغرافية ورمزيتها الدينية، وتطغى عليها ألوان الأحمر والأبيض والأزرق. لا تحمل تاريخاً غير أنها تنسب إلى مطلع القرن الـ18، وتعتبر من أقدم أيقونات الحج التذكارية المعروفة إلى يومنا هذا.

وثمة كثير من اللوحات الكبيرة التي تنتمي إلى هذا الطراز من التصوير الأيقوني الذي يندرج في سياق لوحات الحجاج كتذكار من الأراضي المقدسة، وتحوي كتابات بعضها مدونة باليونانية وبعضها الآخر بالروسية مع عبارات إهداء، وهي غالباً ما تخلو من إمضاء أو تأريخ، ما عدا لوحة تذكارية كبيرة وجدت في فلسطين من نتاج عام 1865، فالكتابات مدونة باللغة الروسية وتحمل اسم "إيليا العابد للقبر المفيض الحياة". وتتميز هذه الأيقونة بتأليفها المبسط، إذ يخرج المصور عن التقليد المتبع في تأليف الأيقونات الطوبوغرافية، ويعتمد تأليفاً مبتكراً يجمع بين سبع صور مألوفة. ففي وسط القسم الأسفل يقف القديس نيقولاوس في الوسط بين أيقونة رقاد السيدة وأيقونة الينبوع المحيي. وفي القسم الأوسط يمتد طريق الآلام وفي القسم الأعلى يمتد طريق الحجاج المتعبدين. وعند طرفي الأيقونة تقف القديسة كاترينا والقديسة بربارة.
ولعل الظاهرة اللافتة في المعرض وجود أيقونات موقعة بأسماء رساميها، ومن بينهم ميخائيل مهنا القدسي الذي ترك لنا أكثر من تحفة مثل أيقونة يسوع المسيح رئيس الكهنة العظيم أو المسيح الضابط الكل والراعي الصالح، منجزة بألوان التامبرا على خشب، وموقعة بتاريخ 1885، وثمة كثير من الأيقونات غير الموقعة التي تجسد العذراء الأم المرشدة "هادجيتريا" التي تحمل المسيح الطفل على يدها اليمنى وتشير إليه بيدها اليسرى، وهي من أكثر النماذج المعروفة انتشاراً في العالم الأرثوذكسي، أقدمها يعود للقرن الـ18، والعذراء ذات الوردة، والعذراء المحاطة بالقديسين، ويحمل بعضها سمات الفن البيزنطي في مرحلة متأخرة من الحقبة العثمانية.

وإضافة إلى أيقونات الميلاد ودفن المسيح ومعموديته وقيامته، يضم المعرض أيقونات مفردة حملت مواضيع عدة، واستعادت في الدرجة الأولى صور القديسين والقديسات الذين حظوا بتكريم واسع في بلاد الشام، وكذلك في سائر أنحاء الشرق المسيحي. واحتل القديسون الفرسان مقاماً رفيعاً في هذا الميدان، وعلى رأسهم جاورجيوس وديمتريوس، كما يحضر عدد كبير من القديسين الشهداء المحليين من بينهم يعقوب الفارسي والطبيب إليان الحمصي والأمير موسى الحبشي الذي هجر حياة الترف وحج إلى قبر المسيح في فلسطين، وانتقل بعدها إلى سوريا حيث أسس ديراً في قارا، وبقي فيه مع مجموعة من تلامذته، إلى أن قتل على يد جنود الإمبراطور الروماني.
يتيح معرض "كما في السماء كذلك على الأرض" الذي يستمر لغاية أواخر ديسمبر (كانون الأول) المقبل، فرصة نادرة للتعرف إلى وجه القداسة والرجاء في فلسطين أرض الجراح والموت والقيامة.









